بوفاة شاباتاكا ودفنه في جبانة الكرو أصبح تهارقا ابن كل من بيَّا وابار ملكاً متوجاً، والأكثر شهرة من بين ملوك الأسرة الخامسة والعشرين. فكما ذكرنا فان تهارقا كان قد تمَّ استدعاءه من كوش إلى مصر بجيشه ولم يكن عمره حينها قد تجاوز العشرين. اتجه تهارقا أولاً إلى طيبة ومنها إلى منف. اللافت للانتباه أننا نعرف الكيفية التى أصبح بها تهارقا ملكاً متوجاً على مصر في حين نجهل الكيفية التى توج بها في كوش نفسها. فالواضح أنه عندما غادر نبتة، كما يتضح ذلك من مسلته من العام السادس لحكمه، لم يكن ملكاً بعد. بعد اعتلائه العرش في مصر. يبدو أن تهارقا قرر أن تكون إقامته في الدلتا بمدينة تانيس وهو ما يشير إلى ظروف فرضت عليه مثل ذلك الخيار. أيضاً يبدو أن تهارقا قرر إتباع سياسة مع حكام الدلتا المتمردين تمثلت في أخذ زوجاتهم رهائن إلى كوش، حيث سجل في أحد النقوش في معبد كوة: “جعلت زوجات حكام (أورو) مصر السفلى خادمات في المعبد. لاشك أن الحروب والانتفاضات في الإمبراطورية الآشورية قد ألهت سنحاريب ومن بعده اسارحادون في أيام حكمه الأولى عن غزو مصر مما أباح لتهارقا الفرصة للانشغال بالنشاطات المدنية وتمكن من تشييد الكثير من المعابد في كل من كوش ومصر كما لم يتسن لأسلافه القيام به. تفاصيل تلك الأعمال المعمارية الهائلة لن نخوض فيها حالياً. لكن نقول أنه قياساً بحجم الهدايا والهبات التى قدمها تهارقا لمعبد آمون في كوة. و قياساً بأعمال البناء التى وجه بإجرائها هناك فانه كان يمتلك قدراً هائلاً من الثروة، ثروة توفرت للدولة من الضرائب المفروضة على المواطنين في كل من كوش ومصر بالإضافة إلى العمل المكثف في مناجم الذهب في الصحراء الشرقية. وكان من بين الهدايا العديد من المصنوعات والمواد الآسيوية المجلوبة إلى كوش من بينها خشب الأرز والبرونز الآسيوي، وهى موضوعات غالباً ما يكون قد تم اقتناءها عن طريق التجارة ذلك أن مرتفعات لبنان ما كانت في تلك الفترة تحت سيطرة الكوشيين. امتدت حدود مملكة نبته في عهد تهارقا جنوباً حتى مكان يقال له رتيهو قابت، وفي الشمال حتى مكان في آسيا يقال له كبح حور، ولازال الموقع الفعلي للمكانين غير محدد. في بداية عهده بلغت المملكة أوج ازدهارها وقوتها، ويحتمل أن تكون أعمال صهر الحديد في مروى (كبوشية الحالية) قد بدأت في أيامه حيث فرضت ظروف الصراع العسكري المستمر مع الإمبراطورية الآشورية العمل على تطوير صناعة الأسلحة. وكما هو واضح من النصوص التى تم الكشف عنها في كوة فان اقتصاد المعابد شهد ازدهارا، وأصبحت المعابد في كوش، كما هو حالها في مصر، مراكز علمية، ووجد في معبد آمون بكوة أربعة منجمين استطاعوا تحديد الوقت بحركة الأفلاك بمساعدة أجهزة متخصصة. ويلاحظ أن كل المسلات في كوة يرجع تاريخها إلى العشر سنوات الأولى من عهد تهارقا، أي الفترة من 689 حتى 679 ق.م. فهل كان ذلك مجرد صدفة؟ لا نعتقد ذلك إذ أنه بعد مقتل سنحاريب الآشوري في انقلاب داخل القصر تولى ابنه اسارحادون السلطة في عام 681 ق.م. لتبدأ مجدداً التهديدات الآشورية تطال الممتلكات الكوشية في مصر مما فرض على تهارقا الاهتمام بحماية حدود مملكته الشمالية في شرقي الدلتا، وهو ما أدى إلى تحجيم الدعم المالي والعيني الذى يقدمه للمعابد. ويبدو أن اسارحادون أدرك أنه طالما بقيت القوة الكوشية مسيطرة على مصر فان سيادة الإمبراطورية الآشورية على سوريا وفلسطين لن تستقر، ولذلك قام في عام 647 ق.م.، بمجرد أن قضى على المقاومة في سوريا، بمحاولة الهجوم على الكوشيين في مصر لكنه مُنىَّ بالهزيمة. وعاود الكرة مرة ثانية بعد ثلاثة أعوام فشن هجوماً حقق نجاحاً بفضل المساعدة التى قدمتها له زعامات قبائل البدو ومدَّ جيشه بالجمال تمكيناً له من عبور صحراء سيناء ليصل إلى منف ويحاصرها ويحتلها بعد أن أجلى عنها تهارقا الذى خلف زوجاته وأطفاله في المدينة ليقعوا في الأسر. أما حكام الدلتا المصريين فقد أعلنوا عن ولائهم للغازي الجديد القادم من الجزيرة الفراتية. ويقول اسرحادون بخصوص نصره: “ضربت الحصار حول مدينة ممبى (منف) المقر الملكي، واستوليت عليها قبل مرور نصف يوم بواسطة الأنفاق الأرضية والثغرات التى فتحت في أسوار المدينة وسلالم الاقتحام. ونقلت المغانم إلى أشور، ومن بينها الملكة وحريم القصر واوشى ناحورو الوريث الرسمي و أبناءه الآخرون وممتلكاته والعديد من جياده ودواب الحمل والماشية والقطعان، وأبعدت جميع الكوشيين إلى خارج البلاد ولم ابق على واحد منهم ليقدم ليّ فروض الطاعة والولاء، وحل محلهم في ربوع مصر ملوك وحكام وضباط ومراقبو موانئ وموظفون وإداريون جدد”. هذا وقد خلد اسارحادون انتصاره في لوحتين الأولى في زنجريلى والثانية في نار الكلب، وصور اسارحادون في الأولى وهو يقف أمام تهارقا الجاثي على ركبتيه، وفي الثانية أمام ابن تهارقا اوشى ناحورو. إلا أن انتصار اسارحادون لم يدم طويلاً إذ عاد تهارقا مجدداً إلى منف في عام 669 ق.م. وهو ما فرض على الملك الآشوري أن يجهز جيشاً لاستعادة مصر لكنه توفي وهو في طريقه إلى هناك وتوقفت تلك الحملة نتيجة ذلك. في عام 666 ق.م. قرر ابن اسارحادون الملك أشور بن بعل فرض سيطرته على مصر مجدداً مما دفع تهارقا إلى التراجع من منف إلى طيبة. ومات تهارقا في عام 663 ق.م. والصراع بين الإمبراطورية الآشورية ومملكة نبتة على أشده للسيادة على مصر. ورغم أن تهارقا كان قد تعرض للهزيمة مرتين وأجبر على التراجع أمام الجيوش الآشورية فان التحدارات التاريخية تنظر إليه واحداً من الملوك الفاتحين العظماء، هكذا نجد أن سترابو ذكر تهارقا في المرتين اللتين تعرض فيهما لأعمال أعظم الملوك الفاتحين في القدم ، مشيراً إلى أن تهارقا قد وصل حتى أعمدة هرقل. كما أن نصوص الكهنة المصريين، والتي لم تجد الاهتمام من قبل علماء الدراسات المصرية القديمة، تتحدث عن تهارقا العظيم الذى عدوه ملكاً حتى في ظل السيادة الآشورية. ولا ننسى أن تهارقا في السنوات العشر الأولى لحكمه جعل من مصر دولة مزدهرة اقتصاديا وهو ما جعل ذكراه طيبة لدى المصريين. كما أن الحوليات التى دونت في عصره بأخبار فيضان النيل الذى حدث في العام السادس لحكمه، وبلغ ارتفاعه مستوى خطيراً كاد ينقلب إلى كارثة لولا العناية الإلهية، على حد تعبيره، التى حولت الفيضان لفائدة العباد ، واحتفالاً بهذه المناسبة نصب تهارقا المدونات المتماثلة في تانيس بمصر وفي كوة بكوش وفي مدن مصرية وكوشية أخرى جاء فيها :
أيَّا آمون يا أبى، ياربَّ عرشي القطرين. لقد أنعمت علىَّ بأربع معجزات في غضون سنة واحدة، وهو العام السادس من تتويجي ملكاً، عندما فاض النيل ليبلغ مستوى يمكن أن يسبب انجراف المواشي وإغراق سائر البلاد، ولكن ظلت المناطق الريفية جميلة على مد البصر، ولم يسمح لرياح الجنوب أن تقضى عليها، وماتت القوارض والزواحف وطردت أسراب الجراد. وهكذا استطعت أن أحصد حصاداً وفيراً بكميات لا تقدر من أجل بيت الغلال المزدوج .